وهؤلاء المتكلمون يقولون: يمتنع أن يكون الله في جهة، ويمتنع أن يشار إليه بالحس، وهذا هو قول الفلاسفة، ثم أخذه عنهم المتكلمون من معتزلة وأشعرية فقالوا: يمتنع أن يشار إلى الله إشارة حسية.
فلذلك يقول المصنف رحمه الله: [كما أشار إليه من هو أعلم ربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر].
فالمشير إلى جهة العلو هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أعلم الخلق بالله، وأفضل خلق الله تعالى.
وأين كانت الإشارة؟ يقول: [لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله] كان هذا المجمع الأعظم في الحج يوم عرفة، ومن العلماء من قال: إن الخطبة كانت في منى، والإمام البخاري رحمه الله بوب في صحيحه فقال: (باب الخطبة في منى )؛ ومن المتفق عليه: أن هذا المجمع كان في الحج، في حجة الوداع، وفي أعظم يوم، سواء قلنا: إنه يوم عرفة، أو يوم النحر، وفي المكان الأعظم، وهو حرم الله سبحانه وتعالى.. أطهر بقعة في الأرض، وباجتماع هذه الخصال والصفات جميعاً كانت الإشارة الحسية إلى الله تبارك وتعالى، وذلك بعد أن خطبهم ووعظهم وبين لهم حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ونهاهم أن يقتتلوا من بعده، وبين حقوق بعضهم على بعض، حتى بيَّن صلى الله عليه وسلم حق المرأة على زوجها، وحق الرجل على زوجته في تلك الخطبة العظيمة، وبعد ذلك قال: {أيها الناس! أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟} كما قال الله: ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ))[الأعراف:6]، وفي الآية الأخرى يقول: ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ))[القصص:65] فالله سبحانه وتعالى يسأل الناس يوم القيامة عن إجابتهم الرسل، وكل إنسان يُسأل في قبره ثلاثة أسئلة، منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت تقول في هذا الرجل؟
فكل فرد منا مسئول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا كان يعتقد فيه؟ والجواب ليس هو ما يعتقده الإنسان في ذهنه؛ بل الجواب هو حاله وواقعه، فهو الذي يجيب، ولو أن الجواب عند الله تبارك وتعالى بالفهم أو بالذكاء أو الحفظ؛ لحفظ الإنسان ما يريد أن يقول وأجاب بما يريد، لكنه في الحقيقة لا يجيب إلا بمقتضى حاله في هذه الحياة الدنيا؛ فإن كنت الآن على سنته وعقيدته وهديه ودعوته، فإن جوابك سيكون على وفق ما أنت عليه، وإن كنت معرضاً عن هديه وسنته ومنهجه وشريعته، فإن جوابك في القبر وعرصات القيامة لن يكون إلا بمقتضى ذلك.
ثم قال: [فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت]؛ هكذا شهد الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، وكان هذا الموقف العظيم موقف الوداع، ولهذا سمى الناس هذه الحجة بحجة الوداع من وقتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس، فقال: {لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا}، وبالفعل لم يلقوه صلى الله عليه وسلم بعد عامه هذا، بل إنه بعد منصرفه من حجة الوداع ببضع وثمانين ليلة تقريباً أدركه الأجل صلى الله عليه وسلم.